معرفة

أبو بكر لم يرافق النبي: أثر السياسة على الهجرة النبوية

ما هي الروايات التاريخية المرتبطة بالهجرة التي تأثرت بالأبعاد المذهبية، وكيف نفسر شهرتها بين الناس رغم ضعفها وتهافتها، وكيف استُغلت تلك الروايات؟

future صورة تعبيرية: لوحة مشهد الصحراء - فرانسيسكو ﻻمير

تحظى الهجرة النبوية بمكانة مهمة في الوجدان الجمعي في الإسلام. على مدار ما يزيد على 14 قرناً، اعتاد المسلمون على الاحتفاء بذكرى تلك الحادثة المهمة، إلى الدرجة التي حدت بهم ليعتمدوها حدثاً معيارياً استندوا إليه في تأسيس تقويمهم الزمني.

بحسب ما تذكر أغلبية المصادر التاريخية الإسلامية، فإن اعتماد التقويم الهجري بدأ للمرة الأولى في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب. وذلك بعدما أُشكل على مسلمي المدينة المنورة في ما يخص تحديد توقيتات كتابة الرسائل الواردة إليهم من أطراف الدولة الإسلامية. اختار عمر أن يبدأ العام الهجري بشهر محرم حتى يكون الحجيج قد رجعوا إلى بلادهم عقب انصرافهم من أداء شعيرة الحج في شهر ذي الحجة. مع مرور الوقت، ارتبطت ذكرى الهجرة النبوية بشهر محرم تحديداً، وتناسى أغلب المسلمين أن انتقال النبي إلى يثرب قد وقع في شهر ربيع الأول على أرجح الروايات وأكثرها موثوقية واعتباراً.

من جهة أخرى، تفتح القراءة البحثية المتأنية في الروايات التاريخية المرتبطة بالهجرة النبوية، آفاقاً واسعة لفهم الكيفية التي دونت بها أحداث التاريخ الإسلامي المبكر. ارتبطت تلك الفترة بالخلط بين التاريخي الذي وقع بالفعل، والمُتخيل الذي عبّر -بامتياز- عن أفكار وأحلام ورؤى الناس ومشاغلهم. سيجد الباحث المدقق في تلك الروايات أبعاداً مذهبية، وسياسية واضحة. فما هي الروايات التاريخية المرتبطة بالهجرة التي تأثرت بالأبعاد المذهبية، وكيف نفسر شهرتها بين الناس رغم ضعفها وتهافتها، وكيف استغلت تلك الروايات من قِبل مختلف المذاهب والفرق الإسلامية؟

الهجرة العلنية لعمر بن الخطاب

منذ قرون، درج المسلمون -من أهل السنة والجماعة تحديداً- على تناقل بعض الروايات التي تحدثت عن الشجاعة الباهرة التي أبداها عمر بن الخطاب عند سفره من مكة إلى يثرب. وردت تلك الروايات في عديد من المصادر التاريخية المهمة، ومنها على سبيل المثال كل من «تاريخ دمشق» لابن عساكر، و«أُسد الغابة في معرفة الصحابة» لابن الأثير. جاء في تلك الروايات عن علي بن أبي طالب «ما علمت أن أحداً من المهاجرين هاجر إلا متخفياً، إلا عمر بن الخطاب فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه، وتنكب قوسه، وانتضى في يده أسهماً، واختصر عَنَزَته، ومضى قِبَل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعاً متمكناً، ثم أتى المقام فصلى، متمكناً ثم وقف على الحلق واحدة واحدة، فقال لهم: «شاهت الوجوه لا يرغم الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن تثكله أمه أو يوتم ولده أو يرمل زوجه فليلقني وراء هذا الوادي».

على الرغم من الشهرة الطاغية لتلك الرواية في المُتخيل الإسلامي السني الجمعي، فإنها واضحة الضعف والتهافت. وبذلك قال عديد من علماء الجرح والتعديل البارزين. ومنهم محمد ناصر الدين الألباني في كتابه «دفاع عن الحديث النبوي» عندما قال: إن هذه الرواية مدارها على الزبير بن محمد بن خالد العثماني، وعبد الله بن القاسم الأيلي، وأبيه... وهؤلاء الثلاثة «في عِداد المجهولين، فإن أحداً من أهل الجرح والتعديل لم يذكرهم مطلقاً».

من جهة أخرى، يرى علماء الجرح والتعديل أن الرواية التي ذكرها ابن إسحاق في السيرة هي الرواية الأصح بخصوص هجرة عمر. بحسب تلك الرواية، فإن عمر اتفق مع عياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاصي بن وائل السهمي على الهجرة سراً. ولكن هشام حُبس ولم يتمكن من الخروج في الموعد المُتفق عليه. فهاجر عندها عمر بصحبة عياش سراً دون أن تدري قريش.

من الممكن تفسير شهرة رواية الهجرة العلنية لعمر رغم ضعفها بالمكانة السامية التي يحتلها الخليفة الثاني في الوجدان السني الجمعي. لاقت تلك الرواية الذيوع والاشتهار بسبب تأكيدها على شجاعة عمر وقوته. في هذا السياق، لم يكن من الغريب أن يختار واضعو الرواية شخصية علي بن أبي طالب تحديداً ليضعوا القصة المزيفة على لسانه. كان علي الرمز الأهم عند الشيعة، ومن ثم كانت إشادته بشجاعة عمر تحمل في طياتها اعترافاً رمزياً بتفوق السنة على أعدائهم من الشيعة والروافض.

أبو بكر وعيد الغار

جاء في الآية رقم 40 من سورة التوبة «...إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا...». اتفق أغلب المفسرين على تسمية صاحب النبي في غار ثور، فقالوا إنه: أبو بكر الصديق. واعتبروا تلك الصحبة من مناقب الصديق الباهرة، ومن الشواهد المثبتة لعلو قامته، واحقيته بخلافة النبي في ما بعد.

رغم غلبة هذا الرأي وشيوعه في الدوائر السنية، فإن هناك اتجاهات تفسيرية أخرى ذهبت إلى أن أبا بكر لم يكن مع النبي في الغار أثناء الهجرة. وبحسب تلك الآراء فإن صاحب النبي الذي أُشير له في سورة التوبة، كان عبدالله بن أريقط.

تذكر المصادر التاريخية، ومنها «الإصابة في تمييز الصحابة» لابن حجر العسقلاني أن ابن أريقط كان الدليل الذي صاحب النبي في رحلة الهجرة من مكة إلى يثرب. مما يقف في صف هذا الرأي، أن هناك بعض الروايات القوية التي يُفهم منها أن أبا بكر كان حاضراً في يثرب قبل وصول النبي إليها. من ذلك، ما ورد في صحيح البخاري عن عبدالله بن عمر بن الخطاب «كان سالم مولى أبي حذيفة يَؤُمُّ المهاجرين الأولين، وأصحاب النبي في مسجد قباء، فيهم أبو بكر، وعمر، وأبو سلمة، وزيد، وعامر بن ربيعة...». منطقياً، لا يمكن تصور قيام أبي حذيفة بإمامة المسلمين في حضور النبي. وعلى ذلك، يُحتمل أن تكون الصلاة التي أُشير إليها في الحديث السابق قد سبقت وصول النبي ليثرب.

بغض النظر عن الخلاف حول صحبة أبي بكر للنبي في غار ثور، احتلت تلك الحادثة أهمية مركزية في الوجدان السني. وضاهاها السنة بيوم الغدير عند الشيعة، وهو اليوم الذي نصب فيه النبي علي بن أبي طالب إماماً وخليفة له من بعده، بحسب السردية الشيعية الإمامية.

ظهرت تلك المركزية في بعض الفترات التاريخية التي تصاعد الخلاف فيها بين السنة والشيعة، حاول السنة أن يجعلوا من يوم الغار شعاراً لهم بمقابل يوم الغدير الشيعي. في هذا السياق، يذكر ابن الأثير في كتابه «الكامل في التاريخ» في أحداث سنة 391هـ أن أهل باب البصرة، وكانوا من أهل السنة والجماعة «عملوا زينة عظيمة وفرحاً كثيراً يوم السادس والعشرين من ذي الحجة» وكذلك عملوا ثامن عشر المحرم مثل ما يعمل الشيعة في عاشوراء.

سبب ذلك أن الشيعة بالكرخ كانوا ينصبون القباب وتُعلق الثياب للزينة اليوم الثامن عشر من ذي الحجة وهو يوم الغدير، وكانوا يعملون يوم عاشوراء من المأتم والنوح وإظهار الحزن ما هو مشهور، فعمل أهل باب البصرة في مقابل ذلك بعد يوم الغدير بثمانية أيام مثلهم وقالوا هو يوم دخل النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوبكر رضي الله عنه الغار...».

من هنا، تضخمت رمزية حادثة الغار في العقل السني، واعتُمِد التفسير القائل بصحبة أبي بكر للنبي كتفسير رسمي لا يقبل الجدل أو الشك، فيما تم تهميش وتغييب جميع التفسيرات المخالفة، بحيث فقدت اعتباريتها وحضورها. ومع الوقت، عُدّ يوم الغار كفة ميزان مقابلة ليوم الغدير. وذاع ذلك في الوجدان الإسلامي، وانتشر في التراكيب اللغوية والشعرية، حتى قال الشاعر الشهير ابن الرومي في إحدى قصائده معرضاً بمخالفة زوجته المستمرة له:

«مشغوفة بخلافي لو أقول لها... يوم الغدير لقالت ليلة الغار».

قصة العنكبوت والحمامة

ارتبطت ذكرى الهجرة النبوية بمجموعة من الحوادث الإعجازية، الخارقة للطبيعة. فُسرت تلك الحوادث باعتبارها تأييداً إلهياً قوياً للنبي في رحلة سعيه الحثيث نحو نشر الإسلام خارج حدود مكة.

من أشهر تلك الحوادث قصة الحمامتين والعنكبوت التي تناقلتها عديد من المصادر التاريخية، ومنها على سبيل المثال كل من «البداية والنهاية» لابن كثير الدمشقي، و«كنز العمال» للمتقي الهندي، و«الدر المنثور» لجلال الدين السيوطي. بحسب ما ورد في تلك الكتب فإن النبي وأبا بكر الصديق لما دخلا غار ثور. فإن الله أمر حمامتين فرقدتا أمام الغار، كما قام عنكبوت بنسج خيوطه على باب الغار. لمّا قدم المشركون بعد ذلك وأحاطوا بالغار لم يشكوا في وجود النبي وصاحبه، وسرعان ما انصرفوا وغادروا المكان، مما أتاح الفرصة للنبي لمواصلة المسير إلى يثرب.

على الرغم من شهرة تلك القصة، فإنها قد تعرضت لسهام التشكيك من قِبل عديد من علماء الجرح والتعديل. على سبيل المثال، يذكر الألباني في كتابه «سلسلة الأحاديث الضعيفة»: «وأعلم أنه لا يصح حديث في عنكبوت الغار والحمامتين، على كثرة ما يُذكر ذلك في بعض الكتب والمحاضرات التي تُلقى بمناسبة هجرته، صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة، فكن من ذلك على علم».

المدقق في قصة الحمامتين والعنكبوت سيلاحظ مشابهتها لبعض القصص القديمة التي تأخذ تيمة تدخل العناية الإلهية بشكل إعجازي لإنقاذ الصالحين من ملاحقيهم الذين يضمرون لهم شراً.

من ذلك قصة هروب الملك داود إلى مغارة عدلام التي وردت في الإصحاح الثاني والعشرين من سفر صموئيل الأول. جاء في شروحات التلمود لتلك القصة أن عنكبوتاً كبيراً قد نسج خيوطه على باب المغارة لحماية داود من جنود شاؤول المتتبعين له. تكررت القصة أيضاً في التقليد المسيحي الكاثوليكي في قصة القديس فيلكس النولي الذي عاش في القرن الثالث الميلادي. في تلك القصة، قام الجنود الرومان بتعقب القديس فيلكس، فاختبأ عندها في حفرة. ونسجت العنكبوت خيوطها بأمر الرب لحمايته.

تشهد كل تلك القصص المتشابهة على الطابع الملحمي الذي أضفي على قصة هجرة النبي ليثرب في القرون اللاحقة لوقوع الهجرة. تضخمت السردية القصصية المرتبطة بالهجرة بعدما اقتبست عديد من التفاصيل الواردة في الإرثين اليهودي والمسيحي على الترتيب. الأمر الذي يؤكد التأثير المهم الذي خلفته حادثة الهجرة في الوعي الإسلامي.

# الهجرة النبوية # سيرة # التاريخ الإسلامي

نهج البردة الجديد: السيرة النبوية في المسرح والرواية العربية
نبي الإسلام في القرن العشرين: السيرة بأقلام الأدباء الراحلين
تعدد المذاهب في القانون المصري: اجتهاد أم إرث استعماري؟

معرفة